بسام بن ضو / تونس
احتضنت جزيرة قرقنة بولاية صفاقس، الإثنين 13 أكتوبر 2025، حفل توقيع اتفاقية شراكة جمعت بين برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في تونس (ONU-Habitat)، وبنك تونس والإمارات (BTE)، والجامعة التونسية للبيئة والتنمية (FTED)، وذلك في إطار مبادرة تهدف إلى تعزيز التنمية المحلية المستدامة وبناء قدرات الصمود المناخي لدى المجتمعات الساحلية.
وقد جاءت هذه الاتفاقية، التي حظيت بدعم الإدارة الجهوية للتربية بصفاقس 2، لتكرّس تعاونًا ثلاثيًا بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني من أجل تنفيذ مشروع “نوادي الصمود المناخي والتنمية المستدامة في المدارس الابتدائية بجزيرة قرقنة”، وهو مشروع ممول من بنك تونس والإمارات وينفذ من قبل الجامعة التونسية للبيئة والتنمية، بمرافقة من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في تونس، وفي إطار المبادرة الأوسع “صمود – SOUMOUD” المدعومة من الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية (AECID).
جسّد هذا الحدث لحظة مفصلية في المسار الوطني لتعزيز التنمية الحضرية المستدامة، حيث التزم الشركاء الثلاثة بتوحيد جهودهم نحو هدف مشترك يتمثل في جعل قرقنة نموذجًا للابتكار الاجتماعي والبيئي، عبر حلول مستندة إلى الطبيعة ومُصممة بشكل تشاركي مع السكان المحليين.
ويُعد هذا التعاون استجابة مباشرة للتحديات المناخية المتفاقمة التي تشهدها الجزيرة، والتي تُصنّف ضمن “المناطق الساخنة” في البحر الأبيض المتوسط، نظرًا لتأثرها الكبير بارتفاع مستوى سطح البحر وتدهور التنوع البيولوجي والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالبحر وبالصيد التقليدي.
وأكد برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (ONU-Habitat) التزامه بمرافقة بلدية قرقنة والجهات الفاعلة المحلية في مسار التخطيط العمراني المستدام وإدارة المخاطر المناخية وتعزيز الإدماج الاجتماعي، بما ينسجم مع الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة (مدن ومجتمعات شاملة وآمنة وقادرة على الصمود).
وفي تصريح لمراسل وكالة الأخبار الجيوسياسية الإيطالية قالت عايدة ربانة مديرة مركز تونس لبرنامج منظمة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية :” عملنا على مدى سنة ونصف مع جميع الأطراف واتفقنا على ضرورة العمل على بعث نوادي بيئية في 9 مدارس ابتدائية ومدرسة إعدادية ومعهد ثانوي ومركز الإصطياف والتخيم بالجزيرة بهدف توعية التلاميذ بقيم الإستدامة والمحافظة على البيئة المحلية.
وأضافت ربانة :” دورنا لن يقتصر فقط على تركيز المشروع بل سنقوم بالمتابعة الدورية وتقديم الدعم اللازم لإنجاحه على المدى البعيد . “
ومن جهته، جدّد بنك تونس والإمارات (BTE) التزامه بمبدأ التمويل الأخضر والمسؤول، مبرزًا رغبته في دمج الاستدامة البيئية ضمن نموذجه الاقتصادي من خلال دعم المبادرات ذات الأثر الاجتماعي والإيكولوجي الملموس.
وفي هذا الإطار قالت فريال شبراق المديرة العامة لبنك تونس والإمارات لمراسل الوكالة:” أهم استثمار يمكن أن يحقق نتائج باهرة هو الاستثمار في الزاد البشري عبر نشر الوعي والتأطير الجيد للناشئة لدفعهم نحو ضرورة المحافظة على البيئة .”
وأضافت شبراق :” البنك خصص مبلغا قيمته 97 ألف دينار مع إمكانية الترفيع فيه لإنجاح هذا البرنامج وبعث نوادي يكون لها تأثير إيجابي على الناشئة.”
أما الجامعة التونسية للبيئة والتنمية (FTED)، فستتولى تنفيذ الجانب الميداني من المشروع من خلال إنشاء نوادٍ مدرسية تُعنى بالتوعية البيئية وتعزيز سلوكيات التكيّف مع التغيرات المناخية لدى الأجيال الناشئة.
وفي هذا الصدد قال الهادي بلحاج المنسق العام للجامعة التونسية للبيئة والتنمية لمراسل الوكالة :”في البداية سنقوم بتأطير القائمين

على النوادي البيئية عبر استضافة خبراء في المجال البيئي ومرافقتهم على مدى سنتين لضمان حسن سير النوادي .”
وأضاف بلحاج :” نحن نعول على الناشئة في المسألة البيئية حتى يكونوا بمثابة حلقة الوصل بين الأجيال للتوعية بضرورة المحافظة على الأرخبيل وحمايته مما يتهدده جراء التغيرات المناخية .”
وركزت الاتفاقية على اعتماد مقاربة تشاركية تدمج مختلف الفاعلين المحليين، من مؤسسات عمومية وقطاع خاص ومجتمع مدني، مع إيلاء اهتمام أكبر بالفئات الأكثر هشاشة مثل النساء والشباب والمهاجرين والصيادين الذين يعتمدون الطرق التقليدية .
وقد اعتُمدت هذه المقاربة بهدف تحويل قرقنة إلى مختبر حيّ لمواجهة التأثيرات المناخية ، يمكن أن يُلهم جزرًا ومناطق ساحلية أخرى في البحر الأبيض المتوسط تواجه التحديات المناخية ذاتها.
واعتبر المشاركون أن تأسيس نوادي الصمود المناخي في المدارس الابتدائية بقرقنة يمثل خطوة عملية لترسيخ ثقافة بيئية جديدة، تقوم على إشراك الأطفال في مبادرات تربوية ومجتمعية تزرع فيهم قيم الحفاظ على الموارد الطبيعية، وترسّخ مفهوم “المواطنة البيئية الفاعلة”.
كما أشار ممثلو المؤسسات الثلاث إلى أن هذا المشروع سيسهم في بناء وعي جماعي يجمع بين التعليم والبيئة والتنمية المحلية، ويُمهّد لإطلاق مبادرات مستقبلية أكثر شمولًا.
ويُنتظر أن تُسهم هذه الشراكة في تعزيز قدرة سكان قرقنة على مواجهة آثار التغيرات المناخية، ودعم الاقتصاد المحلي عبر مبادرات بيئية مستدامة مثل الزراعة الذكية بيئيًا والسياحة الإيكولوجية، بما يجعل الجزيرة نموذجًا للتماسك الاجتماعي والاقتصادي في مواجهة تحديات المناخ.
واعتُبر المشروع خطوة عملية نحو ترسيخ مفهوم “الصمود المناخي المحلي” الذي يربط بين التعليم، التنمية، والابتكار البيئي في تونس.
بهذه المبادرة، رسّخ بنك تونس والإمارات وONU-Habitat وFTED مثالًا فعليًا للتعاون متعدد الأطراف لتحقيق تنمية أكثر شمولًا واستدامة، تعكس روح الشراكة العالمية من أجل المناخ، وتضع قرقنة على خريطة المبادرات المتوسطية الرائدة في التكيف مع التغير المناخي.
وجدير بالذكر أن جزيرة قرقنة التونسية تواجه جملة من المخاطر المناخية المتفاقمة التي تهدّد استقرارها البيئي والاجتماعي، فقد أدّى ارتفاع مستوى سطح البحر وتسارع تآكل السواحل إلى غمر أجزاء من الأراضي المنخفضة وتراجع الخط الساحلي بمعدلات تنذر بفقدان مساحات مأهولة خلال العقود القادمة.
كما تسبّب تملّح التربة والمياه الجوفية في تدهور الزراعة المحلية وندرة الموارد المائية العذبة، بينما تفاقمت موجات الحرّ والجفاف، محدثة ضغطًا على السكان والنظم البيئية.
وتواجه الجزيرة كذلك فقدانًا في التنوع البيولوجي البحري، إذ تتعرض المروج البحرية للتلف وتتراجع مصائد الأسماك التقليدية نتيجة تغيّر درجات الحرارة وانتشار أنواع غريبة مثل السلطعون الأزرق.
هذه العوامل مجتمعة تُهدّد سبل العيش في قرقنة القائمة على الصيد والزراعة، وتزيد من خطر الهجرة البيئية نحو المدن الداخلية، ما يجعل قرقنة من أكثر المناطق هشاشة أمام التغيرات المناخية في البحر الأبيض المتوسط.












